النضال في الشعر العربي بالمغرب

 من 1830 إلى 1912

 

للدكتور عباس الجراري

 

طبعتان: الأولى مطبعة فضالة 1975.

الثانية: دار الثقافة – الدار البيضاء – 1978.

 

المقدمة

                                          

بسم الله الرحمن الرحيم

 

     لا بد لنا أن نقول في بداية هذا البحث أن موضوع " النضال في الشعر العربي بالمغرب " يتسم بالاتساع والصعوبة، هو متسع لأنه بدأ منذ بدأ الشاعر المغربي يتوسل باللغة العربية لتنشيط وجدانه وفكره وجعلهما قادرين على التوجيه والتصحيح،وللتعبير عن موقفه في الصراع الذي كان دائرا على الدوام في هذا البلد من أجل الذود عن الحرية والكرامة ومن أجل الدفاع عن الكيان والحفاظ على الوجود ومن أجل الأحسن والأفضل وعلى جميع المستويات.

 

     ثم هو صعب بسبب قلة وتشتت الماد الشعرية التي وصلتنا عبر هذه الفترات الطويلة الممتدة في التاريخ، وكذلك بسبب غموض كثير من الظروف التي عاشها المجتمع المغربي والتي يكمن فيها تفسير الكثير من ظواهر الشعر وملامحه، ولكنها للأسف ما زالت تاريخيا واجتماعيا لم تحلل لكي تعرف حقيقتها، انطلاقا من تركيب المجتمع وتياراته وطبيعة العلاقات بين أفراده وطبقاته ثم بينه وبين المجتمعات القريبة له والبعيدة.

 

     وإذا كان غير ممكن في مجال هذا البحث المحدود أن نلم بأطراف الموضوع ولو في خطوطه العامة، فقد ارتأينا أن نحصره في مرحلة تبدأ مع دخول الاستعمار إلى قلب الشمال الافريقي متمثلا في احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 وتنتهي ببداية عهد الحماية في المغرب سنة 1912.

 

     وليس من شك في أن حادث احتلال الجزائر يعتبر بداية مرحلة جديدة في المغرب والشمال الافريقي عامة لأنه كان بمثابة الناقوس الذي دق ينذر بالخطر في المنطقة. وقد أفاق المغرب من سباته بالفعل، وكان ممكنا أن تبدأ النهضـة الحديثـة – ولو متأخرة عن نهضة المشرق – وكانت قد تيسرت لها أسباب متلاحقة، لعل هذه أهمها :

 

      أولا : البعوث العلمية التي وجهت إلى مصر على عهد السلطان محمد بن عبد الرحمن ثم إلى أوربا أيام الحسن الأول.

 

      ثانيا : المحاولات المتعددة لإصلاح أجهزة الإدارة وتطوير التعليم وتنظيم الجيش وبعث الأسطول وتنشيط حركة الصناعة والتجارة وضبط العملة وإعادة النظر في مختلف مرافق الدولة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. وهي محاولات كان مضطرا إلى اللجوء إليها لمعالجة الأوضاع التي توالت الأحداث لتعرى بنياتها المهزوزة وهياكلها الفارغة ثم لتكشف عن انهيارها وعدم قدرتها على الصمود.

 

     ثالثا : دخول المطبعة إلى المغرب من باريس عام 1859 ومن مصر سنة 1865 ثم توالي المطابع بعد ذلك.

 

     رابعا : ظهور الصحافة ابتداء من 1889، وهي السنة التي صدرت فيها أول جريدة أسبوعية، وكانت تصدر بطنجة وتسمى " المغرب ". ثم تلتها صحف أخرى غير قليلة.

 

     ولكن هذه العوامل لم تثمر حيث وجدت عوائق كثيرة حالت دون ظهور النهضة:

 

     أولها : الظروف الداخلية والخارجية التي كان يعاني منها المغرب نتيجة الإنهاك الذي أصابه – كما سنري بعد – على إثر مواجهته لفرنسا في وقعة ايسلي ثم لإسبانيا في حرب تطوان، تلكم المواجهة التي اضطر إليها عقب مساندته للجزائر والتي فتحت عليه باب المناوشات والتدخلات إلى أن كان عقد الحماية.

 

      ثانيها : طبيعة البعوث التي وجهت للخارج إذ لم يكن يقصد منها إلى التعليم الطويل بقدر ما كان يقصد إلى التكوين السريع والتدريب العملي على بعض التقنيات. ومن ثم لم تمس حركتها أي جانب من ميدان الفكر يمكن أن يكون له تأثير في العمق.

 

     ثالثها : اقتصار المطابع على إخراج بعض الكتب الدينية والمتون المقررة في مجالس الدرس كشمائل الترمذي وشرح ميارة على ابن عاشر، وهما في طليعة الكتب التي نشرت يومئذ.

     رابعها : عدم وجود رأى عام وطني واع يبلور اختيارات الشعب ومطامحه. والمسؤولية في ذلك تقع على القيادة السياسية التي كانت تسعى أو يسعى من حولها لحماية مكاسبهم على حساب الشعب الذي كان مسلوب الإرادة. وما تجميد المسؤولين للخريجين الذين عادوا من البعثات الموفدة للخارج إلا مظهرا لذلك.والمسؤولية تقع كذلك على العلماء ورجال الفكر الذين قطعوا ما بينهم وبين الجماهير من رباط فلم تعد لهم – على الصعيد المجتمعي – أية مبادرة ولا أي دور قيادي ولا أي صوت مسموع إلا ما كان من صوت الوعظ والإرشاد. وحتى هذا الصوت فقد كان غالبا ما يضيع في زحمة الصراع من أجل المصالح والتهافت على تحقيقها بكل الوسائل (1). والشاعر – كالأديب والمثقف عامة – مهما كان قادرا بمفرده على تجاوز عصر بتلك الملامح، فهو لا بد متأثر به سلبا وإيجابا، ولا بد بالتالي لإنتاجه أن يكون صورة لهذا العصر.

 

     والشعر في المرحلة التي حددنا كان أصابه من الوهن والضعف ما أخمد فيه روح الجودة والأصالة وما جعله لا ينبض بالحياة ولا يتعمق التجاوب ولا يصدق القول ولا يحمل في ترنيمات أوزانه وقوافيه ما يدفق العواطف ويبعث فيها الدفء والحرارة. أغلب موضوعاته تدور في إطار ذاتي خاص من غزل ووصف لمناظر الطبيعة ومجالس اللهو، وإن تعدته فإلى المساجلات والإخوانيات والمدائح والمولديات وما إليها من أغراض المناسبات التي صاغها الشعراء نسجا على منوال السابقين ومحاكاة غير جيدة في غالب الأحيان لنماذج المتقدمين.

 

     ومع ذلك فقد كانت هذه الفترة دقيقة في تاريخ المغرب نظرا لأزماتها التي هزت كيانه ومسته في العمق. وفي مثل هذه الأزمات يفرض على الإنسان – على الصعيد الوطني والقومي – أن يقف موقف المواجهة ليقاوم ويتحدى أو ليرفض ويتمرد أو ليضطر إلى إظهار القبول حين العجز عن المقاومة. ولكنه في كل هذه الحالات يصارع وإن تفاوت الصراع في وجدانه نوعـا ودرجة، طالما أنه لم يستسلم للأمر الواقع. والشاعر باعتباره إنسانا ثم باعتباره فنانا مهيأ بحكم طبيعته الحساسة الواعية وبحكم طبيعة دوره القيادي التقويمي التصحيحي أن يكون له موقف طليعي، أي موقف مناضل ولو في إطار ذاته الفردية حين لا يستطيع خلق التفاعل مع ذات الجماعة – تحت تأثيرات معينة – كما هو الشأن بالنسبة لشعرائنا خلال هذه المرحلة. ونعني بالفردية فردية الرؤيا النابعة من الوعي الشخصي بالأمر العام. ولسنا نعني بها تحرك الشاعر متحفزا من حادث يمس شخصه في حريته وكرامته، فتلك قضية (2) ترفد موضوع النضال على صعيد الشعر والأدب عامة وفي سائر العصور ومختلف أقاليم العروبة. ولكننا لم نتعرض لها طالما أننا حددنا إطار هذا البحث في نطاق الأحداث الوطنية والقومية التي فرضت المواجهة على مستوى يتعدى ذات الفرد إلى ذات الأمة.

 

     لذا فمفهوم النضال كما يستخلص من النصوص المحدودة التي توفرت لنا والتي سنعرض أهمها في هذا البحث لا يتعدى مساندة المقاومة الرسمية والشعبية واتخاذ موقف من الأزمات يساير الموقف المسؤول، وهو موقف مهما كان ضعيفا أو فاترا فهو رافض للانهزام والاستسلام، إلا حين ينقاد للقدر؛ يحاول التوعية والتنبيه للخطر وبث روح الحماس وإبعاد عناصر اليأس والتذكير بالقيم التي طرحها دائما مرتبطة بالعقيدة، كما يحاول وفي حالات قليلة تحليل الوقائع وتعليلها والتنبؤ بما قد ينتج عنها. وسيتضح لنا ذلك من خلال تناولنا لثلاثة أحداث تشكل ثلاث فترات في الأزمة التي عاش المغرب طوال المرحلة المطروحة للبحث وهي:

 

     1 – احتلال الجزائر ووقعة ايسلي.

     2 – حرب تطوان.

     3 – المناوشات الاستعمارية التي مهدت مباشرة للحماية.

 

ـــــــــــــ

1)         انظر مقدمتنا لكتاب "الشعر الوطني المغربي على عهد الحماية " ص 6– 7

2)         انظر كتابنا " الحرية والأدب ".